لكم يدمي قلبي وينزف الدم من خاصرتي عدد قديم لمجلة العربي ما زال السعر ملتصقا عليه وأنا أنتزعه من بين كوة الكتب في المكتبة وأتساءل أين كان مذ ابتيع في يوليو 2008 ولكم يستوقفني مرأى فتاة مسلمة وسط آلاف الضحايا إثر قصف الناتو ليوغسلافيا ترفع أكف الضراعة لموتاها في كوسوفا
فأقلب الصفحة وهواجسي تدب دبيبا وأجدها وقد خط فيها بقلم عريض وصف كثير للإنجازات العالم الإسلامي والعربي وتسهب حتى كدت أقع مغشيا علي
مال تناقضات عيشي باتت جزءا لا يتجزأ من ذاتي العصية علي فهمها
أننعتُ أنفسنا بالمسلمين ..أنشهد بأن لا إله إلى الله وأن محمدا رسول الله ونحن لم نعي ما تحتمله هذه الحروف
امتلأت الأوراق ببقع الحبر التي تخربش وتبرم العقود والقرارات والاتفاقيات .ولساننا معقودة بلجام بتنا نستأنس وجوده وهو ما ينفك يسبب القرحة لجلدنا
محض قارورة ماء ما إن أفرغت حتى عبئت بشتى أنواع السوائل حتى ولو كانت خمرة تنفيها عقائدنا ..لا نقوى على النطق بــ (لا) متى ما رغبنا و(نعم )متى ما رأينا أنها الأنسب ..لا نملك بعروبتنا سوى الإذعان لقرارات تملى علينا حرفيا حتى بتنا لا نعرف قضية ومصيرا ..والويل ثم الويل إن حرفنا أحد حروفها ..ومازلنا لم نفكر بانتشال أنفسنا من هوة الانحطاط والضياع ..مازلنا نركض حفاة خلف كل ناعب بصالح وطالح من الجزء الغربي من تلك الخريطة
قصة...
عين هناك ترقبها حيث كانت
بين دفتي أحلامها هناك
وقلم مشبع بالحمرة رسمت وخطت آمالها بشفاء أمها العليلة
وحيثما تركها الدهر بأحضانها وهي لا تقوى حتى على التهدج
وانتزع منها ذلك الدهر الموجعة ضرباته يدا تجفف دموعها وربما تعقص شعرها وتلبسها غطائها وملاءتها لكي لا يجدها البرد فريسة سهلة ويرمي بها صريعة في أحد الأزقة ويطفق براية نصرٍ يصيح فرِحا
انتزعت عشبة مشبعة بالخضرة تحتضنه أرجوحتها لتتم تلك اللوحة التي ابتدأت بها تلك الحمرة _أحلامها_
فتاة للربيع ...
فتاة للربيع ...
فتاة أجمل من فتاة حنا مينه وهو يجرها لآخر قصته قبل أن تضع نقطة النهاية أوزارها وينوح بين الأزقة ليبيعها
فتاة لا تثير الشفقة مثلها رغم افتقارها ليد أبيها بقربها وهي تلوح للمارة بأن خذوها بعيدا ...اشتروها
(أملك أرجوحة ...عينان تعانقان الأفق وابتسامة تتحدى البرد لا تنضب بنضوب الدفء ولن تفعل!!)
طفقت تنادي وصوتها يبح تدريجيا ..ولا أب يضع راحته في كفها ويزيح عنها ما يطلق عليه مسمى (هم) ..ربما هذا الشيء الوحيد المحمود من فعل قدرها الضال ..
نادت لتبيع نفسها علها تساعد تلك المضطجعة في الفراش ببضع سنتات ..تلك التي تلتحف بالعناء والآه ...أو علها تدعها ترقد إلى الأبد بسلام .
فتاة للربيع.. فتاة للربيع وطال ندائها ،ابتلعت أرجوحتها ندائها وهو يرتجع إليها ليدغدغ أذنها الصغير ..ساد الصمت
وكعادة كل البشر الذين يمقتون الصمت افتعلت ما يشقه فناحت أرجوحتها تصر صريرا وهي تعلو بها لتعانق عنان السماء ..لتنهل من بحر الأحلام
محض رجلان عاريتان كانتا لم يتصدق عليهما القدر بخف يرحم طراوتهما وسنتا كروز غفلها في أجمل الليالي وهو يوزع الهدايا على أطفال حيها أو ربما عن طيب نية منه أعطاها للشخص الخطأ ضننا منه أن لا وجود في هذه المدينة الصارخة بالأوان طفلة مثلها ...يال المسكين لم يعلم بعد أن الشارع القابع أمامها قد ابتاعهما حيث كانتا تعنيان له الكثير كيف لا وطفلة مثلها تؤنس وحشته على مدار الساعة ..قدمان أتقن ذاك الزقاق رسم لوحة بؤسهما ..تلك التي غفل فيكتو عنها وهو يسطر رائعته
قهقهت بصوت عال وهي تستقطب آذان المارة بعد أن ملت استقطابهم وهم لا يحفلون
قهقهت حتى شعرت بالصداع يجتاح صدغيها وتعالت ضحكاتها حتى تحلق المارة يبصرون ابتسامتها الغاصبة وهي تزيد من تلك الأعين المحملقة وتتمتم بصمت ...(أخيرا ها أنتم تأتون )
وتصيح مجددا فتاة للربيع.. فتاة بعمر الزنابق.. فتاة تحب الحدائق تجيد الطهي والغسيل ورسم الأحلام وبالطبع الصمت على الأنين والتأرجح عاليا
قمر هناك حيث كانت تصيح تعانق السماء بجدائل شعرها المعقوصة على الطريقة الإنجليزية الفريدة كضفائر سكارليت أوهارا التي سطرت مارغريت ميتشل على جباه العالم بسبب بضع ورقات كانت معنونة بـــ( ذهب مع الريح)
تشد جدائلها من أزر تلك الأرجوحة تعطيها أملا بالبقاء حول ذاك الفناء
حدجها احد المارة بنظرة حردة (يا لك من قبيحة أنت وأرجوحتك )
وآخر( اذهبي أنت تعرقلين الطريق) ونائب ثالث (يا طفلة لترحلي انك تدنسين ميلاد المسيح مكانك ليس هنا )
رفست برجلها الأرض ورمت بترهاتهم على مصب نافورة تخر بقربها
صاحت بكل صوت تمتلكه في أهازيجها ..ليس بفتاة الربيع ولا الخريف ولا الشتاء ..صاحت( أيها النائب ..أقصد العاذل ..بل أقصد بعد قصدي
(أيها الشاكي وما بك داء كن جميلا ترى الوجود جميلا)
(من قال أن كلامك يعني إنه لا يسمن ولا يغني من جوع ..سأظل هنا وإن كنت في ناظرك قبيحة تدنس مقدساتك في ليلتها الليلاء ..سأظل رغما عن عنقك المشرئب عاليا وأنفك المتفاخر به أو أنت صنعت قدرك ..أأنت ألبست نفسك وآويت أهلك وكبت جوعك حتى تتفاخر ..محال يا هذا
سأظل أعطي ذلك الطائر الفتات وأتقاسم مع أرجوحتي ما تبقى وأعقص شعري وأعيد كلما أبلته عوامل الريح لأصيرها حبالا لأرجوحتي إن بلت حبالها من فرط ترنجحي)
وتعلو عاليا وتلامس خيوط السحاب اللاسعة برودة فتدرك أن شغل هؤلاء الشاغل هو إجهاض أحلامها في أسابيعها الأولى قبل أن تغدو عصية على الخنوع أمامهم ...أما نسائهم فالحكة تطالهن ما إن تقف آلة الغزل عن حياكة نسيج معدنه اللمز والهمز وتمحيص كل شاردة وواردة .فيتسارعن لتشحيمها وتزيتها قبل أن تتلقف أنفاسها لتخرج لهن نسيجا غاية في الروعة لا ترف عين أحدهم حالما يبصرها ..تحفة لا تتحمل زيادة شماتة أخرى وإلى تناسج ما نسجن وغدا أضحوكة يسخر منها الكل فهن يعرفن متى يبدأن ومتى يقفن ربما هو الدرس الوحيد الذي فهمنه من صف محو الأمية .
انفض الكل لما يعنيه بعد أن أخرستهم
ما زال أحدهم يناظرها بنصف عينيه ..انتبهت إلى صحيفة نيويورك تايمز بين يديه
(هل لك أن تعطيني الصحيفة )
(ما شأنك بها ..كفي عن آلاعبك وحبائلك ...باتت مزعجة تكد صفو مزاجي الرائق )
لم تكترث لما تفوه به وبصوت واهي منكسر
(سيدي هل لك أن تعطيني الصحيفة ) ..قالتها بروسية بارعة
هاله قولها ولبرهة ترنح بين التناقضات فيال لكنتها وانتقائها لعمق اللغة التي قلما يتقنها أبناء الملك ذاته وهم في عمرها ويال منظرها البائس الذي ينسخ ما قبله ..لم يحتج سوى لثواني حتى أدرك أنها ..أنها واحدة منهم
(أنت يا صبية ...ألن ترحلي ..أنت مسلمة أليس كذلك ..أغربي حالا يا إرهابية ربما ألبسك أبويك طوقا من المتفجرات وصبغوك بالبراءة )
اعتصر قلبها فلو عرف هذا الكهل أين يقطن أبويها وفي أي البقاع لما تجرأ على التفوه بحرف
سقطت من أرجوحتها لأول مرة في ذلك المساء ...
(ألا تملون ..أما آن الأوان أن تتعبوا من هذه الكلمة ..أاقتصرت معاجمكم عليها فواليتم من والاكم فيها وعاديتم من عاداكم في نظرتكم، نعم أنا مسلمة أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا صاحوا بقيس أو تميم ولن أرضى عن ملة إبراهيم ..عن حنيفية رسولي الكريم
أيها الناعبون الصائحون بما لا تفقهون أما آن لكم أن تبصروا عصا موسى وهي تلقف ما تأفكون ..كفوا فأنا أقسم برب الكعبة أنك بذاتك لا تفقه معنى حروف ما نطقت )
(حسبك حسبك يا طفلة ..من ينظر إليك يجهلك حقا انك جحيم مستعر ..خذي الجريدة ولترحلي ..لا أنوي افتعال شجار هنا أمام شجر الميلاد ..خذي )
أمسكت الجريدة وقلبتها
(الأمم المتحدة ومجلس الأمن يصادقون على قرار إعطاء اللجوء الساسي للنازحين من كوسوفا وقوات حفظ الأمن الدولي تنسحب من إقليم يوغوسلافيا
وجوج بوش يستعمل حق الفيتو للمرة الثانية في الإبقاء على قراره)
(هه يال السخف ألم يحن الأوان لموت هذا الطاغي ..لقد اكتفت منه الأرض ضاقت بما رحبت أتساءل لم دوما يعمر الطغاة ويختطف القدر كل طيب ..ألانه هو أيضا يحب انتقاء الأفضل وما ذا عنا نحن ...كيف سنترك تحت رحمة أضراس لم تستك منذ سنين وبات يزعجها ذلك ..فلم تجد غيرنا لتصب جام غضبها وتلفظنا بعيدا ..آه ما أقصر العيش وما أضيقه )
رمت بالصحيفة بعد أن أصيبت بالتخمة من كثر ما أعادة قراءتها ..هوت على الأرض لتسجد لربها ..
ومن ثم
كان لابد من هجرة قسرية لترعى غنمها كما فعل رسولها
استنشقت الهواء المخضب بأنقى أنواع السجائر وأفخر دخان السيارات حيث الكل بأبهى حلة وحمدت الله على أنها ما زالت تعرف كيف تتنفس ..ما زالت الحياة تدب في أوصالها ..ما زالت قادرة على التبسم في وجهي
لم أكن أخير من صبي بني هاشم وهو يرعى غنمه وهالة النبوة تطوقه وتظلله ..سأذهب لأرعى غنمي _أحلامي _ حتى لو كانت درجة الحرارة تحت الصفر بعشرات
رحلت مع نسمات الصباح وهي تشعشع ..رحلت بانشراح
وهي تقول قول الصراح (الوطن وطن ولو في المنفى )
قد أصبح يوما أطروحة هذا المنفى لم لا فأنا لم أترك كاتبتي تفكر في حكاية لافنتيون والجراد الذي أتى على غل الصرصور ...حيث لا مجال للمقارنة بين الصرصور وفتاة سيمائها في وجهها من الفقر والحاجة ...
انتزع ذلك القابع على بعد سنتيمترات عشبة أشد خضرة من خضرتها وخط على تلك الأرجوحة بعد أن تلفت ليتأكد من رحيلها لكي لا يغرق في زوبعة لا تحمد عقباها
(على أرجوحة وقصاصة
فتاة بلا رداء أو ملاءة
رسمت أحلامها بحذاقة
وبكت لوعتها بحرقة ودمعت رقراقة
وتمتمت للصباح وأنشدت بكل بساطه ....عله يحتضن تلك الأرجوحة وتلك القصاصة
انتهى