الجمعة، 7 ديسمبر 2012

قصة قصيرة : أصفاد صدئة




 
يُساق الى اللامصير؛يمشيء ببط كالتفاصيل كل شيء حوله يصلي صلاته الأخيرة هكذا خُيل له،هو الذي لايُعرف في هذا المكان إلا ببضع أرقام هزيلة لكنه في خارج جُغرافيته رقم يثقل كاهل التاريخ؛كُل صورة سوداء التقطت له هُنا تعلن عَليهِ الحداد!؛وبالرغم من كل شيء يشعر بأنه فاتح منتصر!

***

لأول مرة تفارقه سلاسله لم يكن ينتظر فراقا كهذا منذ يومه الأول هو ليس ككل المسجونين ،تتكاثف أمامه وجوه يَعرفها ينحني إعجابا لذاكرته اذ لم يسجنها السجن ولم تخضع لقوانينه!؛مايذكره من اتهامه أنه كانَ نزيها في زمن لا يؤمن إلا بالرذيلة؛و أن نفسه  لم تسول له ارتكاب جريمة كالصمت !،تعاود تلك الصور التدافع عليه مرة أخرى ،الورقة ،الجلادين ،عيني اسماعيل ، و"إلا من أكره"؛يرفع بصرِه يبحث عن فراغ ليضيعها يصطدمُ بورقتين وقلم ،أمامه على الجانبِ الأيمن الورقة ذاتها التي يُساوِم بِها على روحه منذ 15 خريفا؛أليست مفارقة عجيبة أن تؤدِي ورقة دَورَ الخلاصِ والحبسِ معنا !؛زَجت بهِ في أتونِ هذا المكان فَلبث فِي السجنِ بضع سنين ؛ أرعد وأبرق وزمجر فور رؤيتها وأعادَ هذهِ الأسطوانة بعددِ الأيامِ التي قضاها فِي هذا المَكانْ ،تعود مضرجَةً بالدماء بعدّ كلِ نوبةِ تعذيب أو حتى سعالٍ يُختتم بِها المشهد؛وتتقن غَسلَ نفسِها في كل يوم، كل لعناته وأحكامه التي يطلقها عليها وعليهم تجبرها أن تنز حبراٌ يذكرها بقدرها الذي لا يشاطِرها فِيهِ غيرها، صَفراءُ،وحيدة ،لا يقربها العث والغبار ولاحَتى بَقيةُ الأوراق ،تصفُ بِعنايةٍ تزعِجها وتستغلُ بالطريقةِ ذاتها،تحفظُ من فضائحِ الحكومةِ مالاتَحفظهُ ورقةٌ أنجبها التاريخُ يوماً ؛كل هؤلاءِ المارِقينَ فِي غِيهم ،المتجمهرينَ حولها بكافةِ شاراتهم العسكرية التي فشلت أفخر أنواع الأقمشةِ على حِمايتها من داءِ الحديد ذاك! يعلقونَ عَليها مِنَ الآمالِ مالايعلقُ عَلى حاكِمهم نفسهِ،لمَ لا ؟وهي من تقرر إن استحقوا ترقية تليق ببطولاتِهم  ؟أم هم أسمال بالية تنهي ملف تلك البطولات رصاصة؟ كُل شيء جائز هنا لا يحمل الحرام تأشيرة دخول هنا منفيٌ هو ومغضوبٌ عَليهِ إلا ما رحم ربك!ثم إنه بمجرد ولوجكَ حقلاً سياسيا لتعملَ فِيهِ كَوسيلة لتحقيق إجرامه يشبه أن تتنزه فِي منطقة موبوئة بالألغام! 

***

يُمسكَ بالقلم ؛يدهش من يده اذ لم يفنها السجن بعد ؛يُقلبها يحاول أن يحصي كم مرة خُلعت فِيها أظافره ولا يتذكر ؛حتَى الألم قابل للنسيان ، يقلب بصره يصطدمُ بهم يسترجع آخر حديثٍ سَمعهم فيه

يَشدُ عَلى أذنه حتى تحمر : هذه فرصتكَ الأخيره أتسمع الأخيرة!!!

يصفق بالباب يَصرخ فيهم : صَبرتم عَلى هذه المهزلة 15 عاما حَمقى!

أطعمناه بأسوء أنواع الأطعمه وأسقيناه العلقم بدل الماء،ألبسناه وأسكناه مالا تطيقه الحيوانات ،كنا نعصر ملابسه دما بعد كل جلسة تعذيب وتلك قصة لا يسعني قصها ، خلعنا أظافره من مكانها ظفرا ظفرا وشعره شعرة شعره وجلده ولحمه وعظمه،حرقناه وكويناه وجلدناه ،كسرناه،حرمناه من نصف كبده ورئته وكليته ؛أصبح جسده مشاعا لكل مرض خبيث حتى ربه كان يعبده عندما نسمح له! ،تعبنا ولم يتعب !،مللنا ولم يمل! وأنت عندما تتحدث عن كل هذا فهذا مشهد يومي تكرر أعوما ،15 عاما ولم نبق له منطقة من جسده إلا ومارسنا شرائع التعذيب عليها !

كل شيء كل شيء كنتم قادرينَ عله إلا رأســــه! إلا ر أ ســـَ ه

***

يَتحسس رأسه وَيبتسم ينظر لفرصته الأخيرة أمامه فِي ورقتينِ وقلم  ؛يزفر بضيق يبحلق بِعينيه ويُعجبُ بِهما مازالتا قادرتينِ على رؤيةِ الأشياءِ الجميلة يَختزل الجمال فِي عيني اسماعيل يُحيهِما من بعيد تُسعفه ذاكرته وتعيده لأجمل المشاهد التي عاشّها معه وتقف مطولا حيث لقاءِ البارحة !

يُميزُ طَرق الباب اذ لا أحد علمته أمه أن يطرق الباب هنا إلا العم اسماعيل ، هذا الكهل الذي يمارس معه دور الأبوة و البنوة منذ لا يدري متى وإلى لا يدري متى؟

يتوجَسُ خيفة ولا يحيه لايبحث عن الأب في عينيهِ كعادته ، يلقي بنظره وكفهِ في الفراغ ؛فكل شيء فارغ حوله هو فقط مزدحم!،توضع صينية الطعام تملأ بعض الفراغِ أمامه ،يوضع المصحف الذي يسربهُ له العم اسماعيل مع كل وجبةِ طعام ويأخذه بإنتهائِها،يتفحصه يبحلقُ فيه يهز رأسهُ ويرفع الصينية ويستدير

يستوقفه:وها أنتَ ذا تخاطِرني أيضاً !إلا متى ستظل تمارس دور الأبِ معي؟؛خيراً فعلت لا طاقة لِي اليوم بطعامهم ؛ثم إنهم لا يطعمونني إلا  اذا  اشتهوا ذلك!

يُسعد بهذا البوح:لا تخبرني عن السجنِ يا بني كأن لم تعرفهُ يوما ؛ لا يكَفي أن تحيا أضعاف ما عِشته هنا لتنسى سادِيتهم  لا تسمح لهم أن ينهوكَ كما اشتهوا أيضاً! ؛!،ثم ماهذا الوطن حتى تذبلَ هكذا فِي سُجونهِ ؟!

سَماء أسَرت لي ذاتَ يوم أنني ابنها الذي تحب!

يستفزه هذا الجواب ؛يقيمه على قدميه يهزهُ بعنف يمسكُ بقميصه يمزِقه ليكشف عن جّسدٍ مشوه يَسكنُ فيه: وَهذا ؟؟! ماذا عن هذا

يبتسم ؛ينظر في عينيه يتشبثُ بالأبِ فيه يمسك بيدهِ يرفعها حيث قلبه يعتذر بعينيه عن خشونة جلده : هذا هذا لاشيء _ كله_ ماداموا لم يستطيعوا تشويهَ روحي !

اطلق سراحك منهم يا بني أطلقها قبل أن يطالوا روحك!

لم أكن يوما سجينا ! ألم أخبرك بهذا ؟منذ يومي الأول وأنا حر!

لا يجيبه ينظر حيث السلسة التي ذرعها ذراعينِ في قدميه 

هذه!؛ليست أكثر من أصفادِ صدئة

لِمَ كُل هذا الإنحياز؟؟ وهذا الوطن بكم يدين لك ؟!

لا يرفع عينيه عنه ولا يجيبه ينهمك بإغلاق أزرار قميصه

يربت على كتفه ، يُغالب دموعه ،يحمل الصينية ويستدير بهدوء ،الفراغ حوله مرة أخرى في لحظة ينتبه للمصحف يستدير :عم سلميان نست الـــ....،ويكون قد غادر ؛لا يمكن هذه المرة لن يكتفوا بتكسير عظامك سيشنقوكَ بعدي ؛يعود لمكانه يتساؤل فِي ذاته لِمَ لم يطردوه في كل مرة يداهمون هذا التآمر عليهم ربما اقتنعوا أن مهمة اعطاء الطعام مهمة  إنسانية لن يطيقوها ولا تليق بهم ! يفتح مؤشر المصحف يملأَ نفسهُ بكل آيةويتوقف عند "إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان"  لثواني ،دقائق، ساعات

وَيصرخ

لِم كل هذا!!!  كنت قد حسمت قراري لِم يا عم اسماعيل جئتَ لتعذبني بها !!

****

ينتبه لدمعةٍ وقعت عَلى جرحِ يدهِ فآلمته يَتحسس زِحامه ويَتذكر أين هو  ؛يَشعر بعينهِ تُحاصِرانه ينظر إليهما مطولا فتعاتبانه : أخائف من الموتِ أنتَ يا عِصام ؛ها أنتَ ذا وقعتَ في المصير الذي أوكته يداكَ ونفخهُ فمك فما أنتَ فاعل؟!

يُجيبه بالطريقة ذاتها : وَقعت ولست نادما عَلى ذلك ،وعن انحيازي يا عم "متهم أنا بالانحياز ولا أنكر ذلك الانحياز لمن هم تحت!”؛ واما وطني فلا يدين لي بشيء هُو فِي حل و "إني لأعجب كيف لوطن أن يدين لشخص بشيء ما في الوقت الذي يدين الشخص بوجوده لذلك الوطن"

 ينظر للجانبِ الأيمن إنها الصفراء ذاتها  أوهكذا تشيخ الأوراق ياهذه؛ في السجون !

****

يتجرع الدقائق يملأ رئتيهِ، يصطدم بعينيه :سأريحك بطريقة أو باخرى من ابن لا يجيد سوى قصص السجون  ، يشد على  القلم ينظر للجانب الأيسر

يوقع : عِصام

انتهت 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق